فصل: سئل عن بنت يتيمة تحت الحجر قال لها الزوج‏:‏ إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة ـ كعثمان وغيره ـ من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين، كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها؛ فإن المأثور عن الصحابة ـ كعمر وعلى ـ‏:‏ أنها تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول، وعدة للثاني‏.‏ وبه أخذ جمهور الفقهاء، كمالك والشافعي، وأحمد‏.‏ واختلف عمر وعلى‏:‏ هل تباح للأول بعد قضاء العدتين‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا ينكحها أبدًا‏.‏ وبه أخذ مالك‏.‏ وقال على‏:‏ هو خاطب من الخطاب‏.‏ وبه أخذ الشافعي‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ وأما أبوحنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني، وتدخل فيها بقية عدة الأول، وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن ابن مسعود، لكن لم نعرف لذلك إسنادا‏.‏ فنقول بتداخل العدتين، فإن العدة حق له؛ إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك، فدخل بعضها في بعض ـ كالحدود؛، والكفارات ـ فإنه / لو سرق، ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة، وكذلك لو شرب، ثم شرب، لم يكن عليه إلا حد واحد‏.‏ فالحدود وجبت في جنس الذنب، لا في قدره‏.‏ ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل، وتجب بشرب القليل والكثير؛ لأن الموجب له جنس الذنب، لا قدره‏.‏ فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحده وعده؛ فإن الجميع من جنس القدر، وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر‏.‏ فمن قال بتداخل العدتين قال‏:‏ عدة المطلقة من هذا الباب، فإن سببها الوطء، ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد، وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره، فإن الموجب لها الجنس الوطء، ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدًا أو اثنين‏.‏

وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطئها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد، وإن كان الواطئ جماعة‏.‏ وقد نوزعوا في هذه الصورة‏.‏ فقيل‏:‏ بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراءً واحدًا إذا كانت في ملكهما‏.‏ فأما إذا باعاها لغيرهما، فهنا لا يجب على المشتري إلا استبراءً واحدًا، ولم يقل أحد علمناه‏:‏ فإن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبرآت متعددة بعدد الواطئين‏.‏ وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا استبراء واحدًا‏.‏ قال الفقهاء‏:‏ ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين‏.‏ واعتذر بعضهم بأن الاستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد؛ ولهذا لا يوجبون الاستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها، ويوجبونه إذا لم يعتقها، بخلاف العدة فإن سببها الرق‏.‏ والكلام في عدة الاستبراء له موضع آخر‏.‏

/والمقصود هنا أنه لا يتعدد، وما علمنا أحدًا قال‏:‏ يتعدد، وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بمجرد الاستبراء حيث قال‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏)‏، فعلق الحل بمجرد الاستبراء ولم يفرق‏.‏ وإذا كان الاستبراء من جنس العدة، ولا يتعدد بتعدد الواطئ، فالعدة كذلك‏.‏ هذا ما يحتج به لأبي حنيفة ـ رحمه الله‏.‏

وأما الجمهور فقالوا‏:‏ العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، وقالوا‏:‏ فقد نفي الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع، وليس هنا عدة لغير الرجال، فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة، فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ‏}‏، إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره، ولو كانت العدة نوعين نوعًا لله، ونوعًا فيه حق للأزواج، لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخري، فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج، وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين، لم يدخل حق أحدهما في الآخر؛ فإن حقوق الآدميين لا تتداخل، كما لو كان لرجلين دَيْنَان على واحد، أو كان لهما عنده أمانة، أو غصب، فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم‏.‏

/واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول‏:‏ لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج؛ لأن الذمية لا توآخذ بحق الله؛ ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا، وهم لا يعتقدون وجوب العدة، وهذا الذي قاله له الأكثرون‏:‏ حسن، موافق لدلالة القرآن‏.‏ ولما قضي به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه؛ وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏:‏ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فأمرهن بالتربص، وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص، وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي، إلا الثالثة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها، فكيف تباح بالرجعة‏؟‏ ‏!‏ أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فإن زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد، وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها، بل متي كانت حلالا له كان أحق بها‏.‏

/وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل، فإنه يستحق بها الرجعة، بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد؛ فإنه هنا لا حق له، إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا، ولهذا طرد أبو حنيفة أصله، لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن، ورجعي، وله أن يوقع البائن بلا رضاها، جعل الرجعة حقا محضا للزوج، له أن يسقطها، وله ألا يسقطها، بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها، فلا تكون حقا له‏.‏

وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق، فإنه موجب للتسوية‏.‏ ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق، بل عليها استبراء بحيضة؛ فإن الاستبراء بحيضة حق الله؛ لأجل براءة الرحم فلابد منه في كل موطوءة، سواء وطئت بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بملك يمين، فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول؛ لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوءة بالزني؛ لأجل ماء الواطئ الثاني؛ لئلا يختلط ماؤه بماء الزاني‏.‏ وهذا مذهب مالك وأحمد‏.‏ وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة، فعلى المنكوحة نكاحًا فاسدًا أولى؛ فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها‏.‏

فإن قيل‏:‏ ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها، وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول، ثم اعتدت للثاني‏.‏ وكذلك عن على‏:‏ أنه قضي أنها تأتي ببقية عدتها للأول، ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح‏.‏

/قيل‏:‏ نعم‏.‏ لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة، وعلى الاستبراء بحيضة، كما تقدم نظائره‏.‏ وحينئذ ـ فعمر وعلى إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة ـ فيكونان أراد أنها تعتد بحيضة‏.‏ وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء، فيكون هذا فيه قولان للصحابة؛ فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل قد نقول‏:‏ تعتد المختلعة بحيضة، والمنكوحة نكاحا فاسدًا بثلاثة قروء، فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا ينكحها أبدًا‏.‏ وقال علي‏:‏ إذا انقضت عدتها ـ يعني من الثاني ـ فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح‏.‏ ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء‏؟‏ ‏.‏

قيل‏:‏ أولاً هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين‏.‏ ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة ـ كالخلع ـ ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد /جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها‏.‏

وإذا قيل‏:‏ فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة‏؟‏

قيل أولاً‏:‏ هذا لا يتعلق بقدر العدة‏.‏

وقيل ثانيا‏:‏ لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح‏.‏ فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك‏.‏ فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده‏.‏ وهذا غلط‏.‏ وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما‏.‏

/وكذلك الذي قضي به على‏:‏ أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد‏.‏ وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه‏.‏

وأحمد له في هذا الأصل روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض‏.‏

والثانية‏:‏ يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما‏.‏ وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية‏.‏

ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا‏:‏ كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد / من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة‏.‏ فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة‏.‏

فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد ـ رحمه الله ـ في محرره‏.‏

وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا‏:‏ إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة، فقالت له‏:‏ طلقني‏.‏ فقال‏:‏ إن أبرأتيني فأنت طالق، فقالت‏:‏ أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال‏.‏ فقال لها‏:‏ أنت طالق، وظن أنه يبرأ من الحقوق، وهو شافعي المذهب‏.‏

فأجاب‏:‏

نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل قالت له زوجته‏:‏ طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي عليك، وآخذ البنت بكفايتها، يكون لها عليك مائة درهم، كل يوم سدس درهم، وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة‏:‏ فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها، وتأخذ الولد بكفالته‏.‏ ولا تطالبه بنفقة، صح ذلك عند جماهير العلماء، كمالك، وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما؛ فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها‏.‏ وأما نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته، فقد انعقد سبب وجوده وجوازه، وكذلك إذا قالت له‏:‏ طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته‏.‏ وأنا أبرأتك من نفقته، ونحو ذلك مما يدل على المقصود‏.‏

وإذا خالع بينهما على ذلك من يري صحة مثل هذا الخلع ـ كالحاكم المالكي ـ لم يجز لغيره أن ينقضه، وإن رآه فاسدًا، ولا يجوز له أن يفرض له / عليه بعد هذا نفقة للولد، فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء‏.‏ والحاكم من متي عقد عقدًا ساغ فيه الاجتهاد، أو فسخ فسخًا جاز فيه الاجتهاد، لم يكن لغيره نقضه‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قال لصهره‏:‏ إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا، فجاء له بكتاب غير كتابه، فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ أبو الزوجة‏:‏ اشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري، واشهدوا على أني أبرأته من كتابها، ولم يبيّن ما في الكتاب، ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود، وقال له‏:‏ أي شيء قلت يا زوج‏؟‏ فقال الزوج اشهدوا على أن بنت هذا طالق ثلاثا، ثم إن الزوج ادعي أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح‏:‏ فهل يقع‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

قوله الأول معلق على الإبراء، فإن لم يبره لم يقع الطلاق‏.‏ وأما قوله الثاني فهو إقرار منه، بناء على أن الأول قد وقع، فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل له زوجة، فحلف أبوها أنه ما يخليها معه، وضربها، وقال لها أبوها‏:‏ أبريه، فأبرأته، وطلقها طلقة، ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها‏:‏ فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء، ولم يقع الطلاق المعلق به‏.‏ وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأي الأب أن ذلك مصلحة لها فإن ذلك جائز في أحد قولي العلماء، كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة، قال لها الزوج‏:‏ إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق ثلاثًا، فمن شدة الضرب والفزع أوهبته، ثم رجعت فندمت‏:‏ هل لها أن ترجع‏.‏ ولا يحنث أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أكرهها على الهبة، أو كانت تحت الحجر، لم تصح الهبة، ولم يقع الطلاق‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل له امرأة كساها كسوة مثمنة ـ مثل مصاغ، وحلي، وقلائد، وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة ـ وطلبت منه المخالعة، وعليه مال كثير مستحق لها عليه، وطلب حلية منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها، فأنكرته، ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها، والثمن يلزمه، ولم يكن له بينة عليها‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته، وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك، لكن إن كانت الكارهة لصحبته، وأرادت الاختلاع منه، فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها، والباقي في ذمته، ليخلعها، كما مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، حيث أمرها برد ما أعطاها‏.‏

وإن كان قد أعطاها لتتجمل به، كما يركبها دابته، ويحذيها غلامه، ونحو ذلك، لا على وجه التمليك للعين، فهو باق على ملكه، فله أن يرجع / فيه متي شاء، سواء طلقها أو لم يطلقها، وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك، أو على وجه الإباحة‏؟‏ ولم يكن هناك عرف يقضي به، فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك‏.‏ وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها، ولم يكن حجة يقضي له بها، لا شاهد واحد، ولا إقرار، ولا غير ذلك، فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل باع شيئا من قماشه، فخاصمته زوجته لأجل أنه باع قماشه، وحصل بينهما شنآن عليه، وهم في الخصام، وجاء ناس من قرابتها، فقال الرجل للناس الذين حضروا‏:‏ هذه المرأة إن لم تقعد مثل الناس وإلا تخلي وتزوج‏.‏ ثم قال‏:‏ إن أعطيتني كتابك لهذا الرجل كنت طالقا ثلاثا وكان نيته أنها تبرئه، فحنقت وأعطت الكتاب للرجل‏:‏ فهل يقع الطلاق أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان مقصوده ـ إعطاء الكتاب على وجه الإبراء فأعطته عطاء مجردًا ولم تبرئه منه، لم يقع به الطلاق‏.‏ وإذا قال‏:‏ كان مقصودي الإعطاء في ذلك؛ إذ لا غرض له إلا في الإبراء، وتسليم الصداق يمنع من الادعاء به ومجرد إيداعه فلا غرض له‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي، فقال الزوج لوالد الزوجة‏:‏ إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق‏.‏ فقال والدها أنا أبرأتك‏.‏ فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء، فأبرأه والدها بغير حضورها، وبغير إذنها‏:‏ فهل يقع الطلاق أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء، فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم‏:‏ أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته، سواء كانت محجورًا عليها أو لم تكن؛ لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه، كما لا يملك إسقاط سائر ديونها‏.‏ ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرًا كانت أو ثيبًا؛ لكونه يلي مالها‏.‏ وروي عنه‏:‏ أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا؛ لكونه يجبرها على النكاح‏.‏ وروي عنه‏:‏ يخالع عن ابنته مطلقا، كما يجوز له أن يزوجها بدون / مهر المثل للمصلحة، وقد صرح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا‏:‏ إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وخطأه بعضهم؛ لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق؛ لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولي؛ ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله، وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج‏.‏ فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلا إسقاط نصف صداقها‏.‏

ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه‏:‏

منها أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين، كما ذهب إليه طوائف من السلف‏.‏ ومالك يجوز الخلع دون الطلاق؛ لأن في الخلع معاوضة‏.‏ وأحمد يقول‏:‏ له التطليق عليه؛ لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها، وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال‏.‏

وأيضا، فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها، ويطلق على الزوج بدون إذنه، كمذهب / مالك وغيره‏.‏ وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل، وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح، وله أن يسقط نصف الصداق‏.‏ ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد، حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق، جاز له ذلك‏.‏ وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها، وذلك يملكه بإجماع المسلمين‏.‏ ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولي عليه للمصلحة‏.‏

فقد يقال‏:‏ الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب، كما يملك غيره من المعاوضات، وكما يملك افتداءها من الأسر، وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها‏.‏ وقد يقال‏:‏ قد لا يكون مصلحتها في الطلاق، ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه، فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل‏.‏ فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر‏.‏ والأب قد يكون غرضه باختلاعها حظه لا لمصلحتها، وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالاتفاق‏.‏

فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق‏.‏ وعلى قول من لا يجوز إبراءه إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع، وكان على الأب للزوج / مثل الصداق عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي في القديم‏.‏ وعنده في الجديد‏:‏ إنما عليه مهر المثل‏.‏ وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء‏.‏ فقال له‏:‏ إن أبرأتني فهي طالق، فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ، ويرجع على الأب بقدر الصداق؛ لأنه غره، وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة، وفي الأخرى لا يقع شيء‏.‏ وهو قول الشافعي‏.‏ وهو قول في مذهب أحمد؛ لأنه لم يبرأ في نفس الأمر‏.‏ والأولون قالوا‏:‏ وجد الإبراء‏.‏ وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء‏.‏ وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه على الإبراء، فإنه يقع، لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق؛ لأنه غره‏.‏ وعند الشافعي لا يضمن له شيئا؛ لأنه لم يلزم شيئا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن امرأة طلقها زوجها ثلاثا وأبرأت الزوج مـن حقـوق الزوجية قبل علمها بالحمل، فلما بان الحمل طالبت الزوج بفرض الحمل‏:‏ فهل يجوز لها ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان الأمر كما ذكر لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء، كان لها أن تطلب نفقة الحمل‏.‏ ولو علمت بالحمل وأبرأته من حقوق الزوجية فقط لم / يدخل في ذلك نفقة الحمل؛ لأنها تجب بعد زوال النكاح، وهي واجبة للحمل في أظهر قولي العلماء، كأجرة الرضاع‏.‏ وفي الآخر هي للزوجة من أجل الحمل فتكون من جنس نفقة الزوجات، والصحيح أنها من جنس نفقة الأقارب كأجرة الرضاع، اللهم إلا أن يكون الإبراء بمقتضى أنه لا تبقى بينهما مطالبة بعد النكاح أبدًا، فإذا كان الأمر كذلك ومقصودهما المبارأة، بحيث لا يبقي للآخرة مطالبة بوجه، فهذا يدخل فيه الإبراء من نفقة الحمل‏.‏

آخر المجلد الثاني والثلاثين